فصل: تفسير الآيات (25- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (21- 24):

{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}.
التفسير:
قوله تعالى: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
بعد أن كشفت الآيات السابقة عن الوجه الصحيح للدنيا، وأنها لعب ولهو وزينة وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنها في حقيقتها أشبه بالزرع يبدو ناضرا جميلا معجبا، ثم لا يلبث أن يذبل ويصير حطاما- كان من تمام الحكمة أن يلفت الناس إلى الوجه الذي يتجهون إليه، إذا هم عرفوا من أمر الدنيا ما كشفت لهم عنه آيات اللّه- فكان قوله تعالى: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}
كان ذلك بيانا للاتجاه الصحيح الذي ينبغى أن يتجه إليه الناس، ويتنافسوا في طلب المزيد منه، وهو العمل للدار الآخرة، وابتغاء مرضاة اللّه، والفوز بمغفرته، وبما أعد من نعيم في جنات عرضها السموات والأرض، للذين يؤمنون باللّه ورسله.
فقوله تعالى: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} هو في مقابل قوله سبحانه:
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ}.
فمن كان يطلب التفاخر والتكاثر، فليكن ذلك في مجال الاتجاه إلى اللّه سبحانه، وابتغاء مغفرته ورضوانه بالعمل الصالح الطيب، الذي يقوم في ظل الإيمان باللّه واتقاء محارمه، ففى هذا المجال يحمد التنافس والتسابق، وفى هذا الميدان يطيب الجمع، والاستكثار، حيث يدّخر ليوم عظيم {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [30: آل عمران].
يقول السيد المسيح عليه السلام في بعض عظاته: لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك، يكون قلبك أيضا.
وفى وصف الجنة بأنها عرض السموات والأرض، إشارة إلى سعتها التي لا حدود لها، والتي لا يزاحم فيها أحد أحدا، حيث يتبوأ أهلها حيث يشاءون منها.. فما أوسع هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.
فكيف يكون طولها؟.
وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} إشارة إلى أن هذه الجنة لا يدخلها إلا من كان مؤمنا باللّه، وبرسل اللّه.. فالإيمان باللّه ورسله، شرط أول لدخول هذه الجنة.. فمن كان مؤمنا باللّه ورسله، فهو من أهل الجنة، وإن عذّب بالنار، جزاء ما ارتكب- مع الإيمان- من آثام، وما اقترف من ذنوب!.. وفى الأثر: «أنه لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان».
وفى جمع الرسل إشارة إلى أن الإيمان برسل اللّه جميعا هو الإيمان الحق، إذ كان الرسل جميعا على دين واحد.. هو الإسلام.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} وقوله تعالى: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الإشارة هنا قد تكون الجنة، أي أن هذه الجنة، التي أعدها اللّه سبحانه للذين آمنوا باللّه ورسله، هي من فضل اللّه عليهم.. وقد تكون الإشارة للإيمان باللّه ورسله، فهو من فضل اللّه على المؤمنين، إذ هداهم للإيمان، وفتح قلوبهم وعقولهم له، وهذا ما يشير إليه سبحانه على لسان المؤمنين في الجنة:
{وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ} [43: الأعراف].
قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
أي أنه ما حدث حدث في الأرض، أو لإنسان من الناس، إلا كان ذلك أمرا مقدورا في كتاب الله، من قبل أن يقع هذا الأمر، ويأخذه مكانه في الأرض، أو في حياة الناس.. وقوله تعالى: {نَبْرَأَها} أي نخرجها من عالم الخفاء إلى عالم الظهور.. ومن أسمائه سبحانه {البارئ} الذي برأ الوجود أي أوجده.
وفى التعبير عن وقائع الأمور وأحداثها بأنها {مصيبة} إشارة إلى أن المكاره هي التي تلفت الناس أكثر من غيرها، وأنها هي التي تثير تساؤلاتهم، وتشغل أفكارهم.. أما مواقع النعم والإحسان فقلّ أن يلتفت الناس إليها، وإن التفتوا إليها أضافوها إلى أنفسهم، واعتبروها من كسب أيديهم وأن كثيرا منهم من يقول- بلسان الحال أو لسان المقال- قولة قارون: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} [78: القصص] والمخاطبون بهذا، هم أولئك الذين دعوا إلى المبادرة إلى الإيمان، والسعى حثيثا إلى اللّه، وإلى ابتغاء مرضاته وهم عاكفون على متاع الحياة الدنيا، وشهواتها- فهؤلاء يقفون من الإيمان باللّه، موقف فتور، وتخاذل..
ففى إيمانهم دخل، ومن هنا فإنهم يرون ما يقع بهم من مكروه، هو من المصائب التي تملأ نفوسهم سخطا، فلا يستسلمون لأمر اللّه، ولا يرضون بما حكم به فيهم.
فقوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} هو خطاب للناس عامة، وللمؤمنين باللّه خاصة، ولهؤلاء الذين في قلوبهم مرض على وجه أخص.
قوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ}.
الأسى: الحزن على فائت، والأسف. أشد من الحزن.
والتعليل هنا هو معلول لمحذوف، يفهم من سياق الآية السابقة، وتقديره أننا قد بينا لكم حقيقة ما يصيبكم، وأنه قدر مقدور عليكم في كتاب- اللّه بيّنّا لكم هذا لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، إذ كان ذلك كله، من عند اللّه، الذي يملك كل شيء.. وهو سبحانه المتصرف في ملكه كيف يشاء، لا معقب لحكمه.
وإذ كان ذلك كذلك، فإن من شأن المؤمن باللّه أن يرضى الرضا المطلق بكل ما يصيبه من محبوب أو مكروه.. فالإيمان، ولاء، ورضى، وتسليم، وإنه لا يجتمع إيمان واعتراض على حكم أحكم الحاكمين، رب العالمين.. وذلك هو عزاء المؤمن عند كل مصيبة، وروح نفسه عند كل كرب.. وهو لطف من لطف اللّه بعباده المؤمنين، الذين تخفّ عندهم المصائب، ويستساغ لديهم طعم المكاره.
أما غير المؤمنين، أو من في قلوبهم مرض من المؤمنين، فإن وقع المصائب عليهم أليم، ونزول المكاره بهم بلاء لا يحتمل.. وهذا من العقاب المعجّل في الدنيا لمن لا يؤمنون باللّه.. فإن أي مكروه يصيبهم في الدنيا- وهيهات أن يسلم أحد من مكارهها- يقطع نفوسهم حسرة، ويملأ قلوبهم كمدا.
هذا في مقام المكروه، أما في مقام المحبوب، فإن المؤمن إذا أصابه خير، ولبسته نعمة، لم يحمله ذلك على الزهو والاختيال، ولم ينظر إلى ما أصابه من فضل- إلّا على أنه ابتلاء من اللّه، وأنه مطالب بحقّ الشكر على ما أنعم به عليه، كما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [40: النمل] وأما غير المؤمن، أو المؤمن الذي في قلبه مرض، فإن النعمة التي تقع ليده من عند اللّه، تفتح له طرقا إلى الاستعلاء والزهو، فيخيل إليه أن ذلك لمزيّة فيه، ولتفرده بصفات ليست لغيره، وأنه بهذا مالك أمر نفسه، قادر على أن يملك أكثر مما ملك، ويبلغ من الحياة والسلطان أكثر مما بلغ.. فلا يرضى بما أصاب، ولا يقنع بما حصّل، ولو ملك الدنيا جميعا.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} إشارة إلى أن هذا الذي لا يضيف وجوده إلى اللّه، ولا يقف بالنعم التي يسوقها اللّه إليه في محراب الحمد والولاء للّه- هو في معرض التعرض لسخط اللّه وغضبه، وحسبه بهذا شقاء وبلاء.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
هو بدل من قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ}.
فإن من شأن المختال المعجب بنفسه، الفخور بما في يده، أن يضن بماله الذي لا يرى لأحد فيه حقّا، لأنه- كما يعتقد باطلا- يرى أن ذلك من كسبه، ومن معطيات تدبيره وحوله، ثم إنه لا يقف عند هذا، بل سرعان ما يتحول إلى داعية من دعاة الإمساك عن الإنفاق في سبيل اللّه، ليقوّى بذلك موقفه، ويدعم جبهته، فإن أهل الضلال إنما يأنسون بإخوانهم، ويتقوّون بالإكثار من أمثالهم، مثلهم في هذا كمثل الشيطان إذ ضل وغوى، فكان دعوة للغواية والضلال.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي ومن يعرض عن الاستجابة لدعوة اللّه، والإنفاق في سبيل اللّه، فقد ظلم نفسه، وأوردها موارد السوء، وأغلق بيديه هذا الباب الذي فتحه اللّه له، ليدخل في رحمته، وينزل منازل رضوانه.. أما اللّه سبحانه وتعالى، فهو الغنى الذي بيده خزائن السموات والأرض، وما دعوته سبحانه وتعالى، لعباده أن ينفقوا مما أعطاهم، إلا فضلا من فضله عليهم، وإحسانا من إحسانه إليهم إذ أفسح لهم المجال للإنفاق على الفقراء والمساكين، الذين لو شاء اللّه سبحانه لأغناهم، ولسدّ الطريق على المنفقين عليهم، ولحرمهم ثواب هذا العمل المبرور.
وفى وصفه سبحانه بأنه {الحميد} بعد وصفه جل شأنه بأنه {الغنى} في هذا إشارة إلى أنه سبحانه هو المستحق للحمد وحده. على السراء والضراء، وعلى الغنى والفقر، وأنه سبحانه- هو الغنى الذي لا تنفد خزائنه- لم يفقر الفقراء ويحرم المحرومين إلا لحكمة وتقدير، وما كان من حكمة اللّه وتقديره فلا يستقبله المؤمن إلا بالحمد والرضا.

.تفسير الآيات (25- 29):

{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
البينات: المعجزات التي يضعها اللّه سبحانه في يد رسله، لتقوم بين الناس شهادة على أنهم مبعوثون من عند اللّه، إلى عباده.
والكتاب: هو ما ينزل اللّه سبحانه وتعالى على رسله من كتب، كالتوراة والزبور، والإنجيل، والقرآن.. وسمى ما أنزل على الرسل من كتب، بالكتاب، إشارة إلى أن جميع الكتب السماوية كتاب واحد، في دعوتها إلى الحق، وإلى الخير.
والميزان، هو شريعة اللّه التي يدعو إليها رسل اللّه، بكتاب اللّه الذي في أيديهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن اللّه سبحانه: قد وصف ذاته بأنه {الحميد} المستحق للحمد على ما أنعم على عباده، ولما كان من أجلّ هذه النعم نعمة الهداية إليه، فقد ناسب أن تذكر هنا هذه النعمة الجليلة، نعمة إرسال الرسل، وما معهم من كتب الشرائع، وما في أيديهم من معجزات، تشهد لهم بأنهم رسل اللّه، وأن دعوتهم التي يحملونها إلى الناس هي دعوة اللّه.
وقوله تعالى: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} هو بيان الحكمة من إرسال الرسل، وما يحملون إلى الناس من آيات اللّه وكلماته، وما تحمل هذه الآيات والكلمات من أحكام وشرائع- فالحكمة من هذا، هي هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والخير، لتطيب لهم الحياة، ولتقوم بينهم روابط الأخوّة والمحبة والتعاون على البر والتقوى. هذا هو المقصد الأول لما يبشر به الرسل في الناس، من الدعوة إلى اللّه، وإلى دين اللّه.. ولكن دعوة الخير شيء، والمدعوون إليها شيء آخر.. إنها أشبه بريح محملة بالطيب، فتنتعش بها نفوس وتختنق بها نفوس.
أو هي أشبه بالشمس، تشرق فتكتحل بنورها كثير من الكائنات، ويحيا بحرارتها كثير من المخلوقات، على حين يعمى في ضوئها كثير من العيون، ويموت تحت أشعتها كثير من الجراثيم، والهوامّ! وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ}.
نظر أكثر المفسرين إلى الحديد هنا، على أنه إنما ذكر في معرض التعداد لنعم اللّه على عباده، وأنه إذا كان بعث الرسل نعمة من أجلّ النعم، فإن الحديد كذلك نعمة من النعم العظيمة، التي يدفع به الناس عدوان بعضهم على بعض، كما يتخذون منه أدوات كثيرة غير أدوات الحرب والقتال.
عند هذه النظرة وقف المفسرون.. ولم نر أحدا- فيما بين أيدينا من كتب التفاسير- قد جاوز هذه النظرة، وجعل للحديد شأنا غير هذا الشأن الذي له في حياة الناس، كمعدن من المعادن التي بين أيديهم.
وأول ما يلفت النظر من أمر الحديد هنا، هو أنه خصّ بالذكر من بين المعادن كلها، وهو ليس أكثرها فائدة، ولا أعظمها نفعا.
ثم إنه مع الاختصاص بهذا الذكر من بين المعادن، قد ازداد شرفا وعظم قدرا بأن سميت سورة كريمة من سور القرآن الكريم به.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لابد أن يكون للحديد هنا شأن غير شأنه المعروف، بمعنى أن ذكره في مواجهة ذكر بعثة الرسل، وما يحملون من آيات اللّه وكلماته، لابد أن يكون مقصودا لأكثر من معنى غير المعنى المعروف له.
والذي وقع لمفهومنا من ذكر الحديد هنا- واللّه أعلم- هو أنه يشير إلى ما يحمل الرسل إلى الناس من وعد، ووعيد، ومن يد تمتد بالخير والنجاح، والسلامة لمن يستجيبون لهم، وينضوون تحت أجنحتهم، ويد تمتد بالبلاء، والهلاك لمن يلقونهم بالعناد، ويرجمونهم بالسفاهات والضلالات.
فمع كل رسالة كل رسول من رسل اللّه، بشريات ومهلكات، بشريات للمؤمنين، ومهلكات للمكذبين، وفى أعقاب كل دعوة من دعوات الرسل حصاد كثير، بعضه للصون والحفظ، وبعضه للضياع والانحلال.
فالناس قبل بعثة الرسول إليهم يتركون لما هم فيه، من خير وشر، ومن هدّى وضلال، فإذا جاءهم رسول من رسل اللّه، وبلغهم رسالة ربه، قامت عليهم الحجة، وأخذوا بما أنذروا به، كما يقول سبحانه: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء].
فآيات اللّه التي ينزلها للناس على يد رسله هي أشبه بالحديد، فيه بأس شديد ومنافع للناس.. ولهذا أشير إلى الحديد هنا بقوله تعالى: و{أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} فالحديد هنا هو البأس الذي ينزل مع آيات اللّه، وهو الزواجر التي تحلّ بالمكذبين وقدّم ما في الحديد من بأس شديد على ما فيه من منافع، لأن أكثر ما تنجلى عنه دعوة رسل اللّه، هو هلاك الأكثرين، ونجاة القليلين. كما يقول سبحانه عن دعوة نوح عليه السلام: {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [40: هود] وكما يقول سبحانه مخاطبا النبي الكريم. {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].
قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} هو معطوف على قوله تعالى {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
فهو تعليل آخر يكشف عن وجه ثان من وجوه الحكمة في بعثة الرسل، وما يضع اللّه سبحانه وتعالى في أيديهم من معجزات، وما ينزل عليهم من آياته وكلماته.
والحكمة الأولى من بعثة الرسل هي هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والعدل.
والحكمة الثانية، هي أن تنكشف بدعوة الرسل أحوال الناس، وما يكونون عليه من إيمان وكفر.. فيحاسب كل بما انكشف منه، وإنه لا حساب ولا جزاء إلا عن ابتلاء واختيار.
فقوله تعالى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} بيان لما ينكشف عنه أمر الناس من دعوة رسل اللّه إليهم، فعلى ضوء هذه الدعوة يعرف من هم أعداء اللّه، ومن هم أولياؤه، ومن يحارب دعوة اللّه، ومن ينتصر لها، ويدافع عنها.
وفى اختصاص الذين يؤمنون باللّه، وينصرون دعوته، ويؤازرون رسله- في اختصاص هؤلاء بالذكر- إشارة إلى أنهم هم أصحاب هذه الدعوة، وأنها في حقيقتها إنما جاءت لتقودهم إلى اللّه، وقد انقادوا فعلا.. أما أولئك الذين كذبوا بآيات اللّه، وأبوا أن يستجيبوا لدعوته، فإنهم إنما كانوا شيئا عارضا في طريق الدعوة الموجهة إلى من هم أهل لإجابتها، وإن كانت قد وجهت إليهم الدعوة ضمنا.. إن ذلك أشبه بمن يبذر بذرا، ثم يسوق إليه الماء، فإذا ظهر الزرع على وجه الأرض، ظهرت معه بعض الحشائش الضارة، التي لا يجد الزارع بدّا من اقتلاعها حتى يسلم ما زرع..!
وعلم اللّه سبحانه علم قديم أزلىّ، وهو غيب عن الناس، فإذا وقع من هذا العلم شيء في الحياة وعلمه الناس، كان علما للناس، وهو في الوقت نفسه من علم اللّه، وعلم اللّه تعالى حينئذ، علم لما وقع، وهو في علم اللّه قبل أن يقع.. فعلم اللّه سبحانه واقع على الأمور في كل حال من أحوالها، وفى كل زمان من أزمانها.
وقوله تعالى {بالغيب} متعلق بالفعل في قوله تعالى: {مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي وليعلم اللّه من ينصره ورسله في غير مشهد من الناس، أي عن إيمان قد استقر في القلب، واستولى على المشاعر.
وخص النصر للّه ولرسله بالذكر في تلك الحال- حال الغيب- لأنه هو النصر الذي يصدر عن صدق، وعن يقين، وهو النصر الذي لا ينقطع أبدا في سر أو جهر، وفى قول أو عمل.. أما النصر الذي يكون بمشهد من الناس فقد يكون عن إيمان، وقد يكون عن نفاق، ورياء، ومصادفة.. ولهذا فإن المعوّل عليه، هو ما في القلوب من إيمان، وما انعقدت عليه النيات من إخلاص.. فإذا صدقت القلوب وأخلصت النيات، صحت الأعمال، ووقعت موقع الرضا والقبول عند اللّه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} إشارة إلى أن نصر المؤمنين للّه، ولرسل اللّه، ليس لحاجة اللّه سبحانه إلى من ينصره وينصر رسله، فهو سبحانه القوى الذي لا يملك معه أحد قوة، وهو العزيز الذي يملك العزة جميعا، فلا يدخل على عزته- جل شأنه- ضيم أو جور، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.. وأن ما يطلبه سبحانه من المؤمنين من نصره ونصر رسله، هو فضل من فضل اللّه على المؤمنين، إذ ندبهم لأمر هو في غنى عنه، وذلك لينالوا أجرا، وليكسبوا خيرا.. وهذا مثل قوله تعالى في دعوته إلى الإنفاق في سبيل اللّه، وفى التعقيب على هذا بقوله:
{وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ}.
وهو تفصيل لهذا الإجمال.
فمن أرسل اللّه من رسل بالبينات، نوح وإبراهيم عليهما السلام.. وخصّا بالذكر لأنهما الأبوان لجميع أنبياء اللّه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى {وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ}.
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} أي أن من ذرية هدين النبيين الكريمين الأنبياء والمؤمنين، كما أن من ذريتهما الأشقياء والفاسقين، وأن القليل من هذه الذرية من اهتدى وآمن، وكثير منهم من ضل وكفر.
وفى إفراد المهتدين وجمع الفاسقين- إشارة إلى أن أهل الهداية ذوات لها شخصية متميزة، يوزن للواحد منهم بميزان الذهب، ويحسب بحساب الجواهر الكريمة، جوهرة.. جوهرة أما أهل الضلال، فهم غثاء كغثاء السيل، يحسبون حساب الحطب، ويعدّون عدّ الحصا.
المسيحية رأفة ورحمة.. ثم ماذا؟ أمريكا والمسيح:
قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ}.
قفّينا: أي أتبعنا، وعقّبنا، والتقفيه للشيء إتباعه لغيره، ومجيئه على أثر ما قبله، كأنه يقفوه، ويتبع أثره.. والأنبياء والرسل هم على هذا الأسلوب، اللاحق منهم يقفو أثر السابق، ويسير على طريقه، إذ كانوا جميعا على طريق اللّه، يحملون مشعل الهدى، فيتسلمه اللاحق من السابق.
والرهبانية: ضرب من العبادة والتبتل، قائم على الرهبة والخشوع للّه، والخشية لجلاله.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي بما حملت رسالة السيد المسيح من دعوة كريمة إلى الإخاء والبر والتسامح، فمن آمن بالمسيح واتبعه وأخذ بتعاليمه كان على تلك الصفات من الرأفة والرحمة.
وقوله تعالى: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها} أي وجعلوا هم رهبانية ابتدعوها.
وفى وصف الرهبانية بأنها مبتدعة، إشارة إلى أنها مما فرضه أتباع المسيح على أنفسهم، وألزموها إياها، وأنها لم تكن مما فرضه اللّه عليهم.. فهم الذين ابتدعوا هذه الرهبنة تقربا إلى اللّه بالزهد في متاع الحياة الدنيا، والاستخفاف بمطالب النفس، من هذا المتاع الزائل.
وقوله تعالى: {ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ} هو وصف آخر لهذه الرهبانية، وأنها لم تكن مما كتب اللّه على أتباع المسيح، وما شرع لهم من شريعة.
وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ}.
إلا هنا ملغاة، بمعنى لكن أي ولكن ابتدعوها هم ابتغاء رضوان اللّه، وطلبا لمزيد من الثواب عنده.
ويجوز أن تكون {إلا} استثناء عاملا، بمعنى أننا {ما كتبناها عليهم} أي ما قبلناها منهم، وما رضيناها لهم، بعد أن جعلوها قربة للّه، ونذرا ألزموا أنفسهم به، إلا لتكون خالصة لوجه اللّه، قائمة على طريق العدل والإحسان.
فهذا هو الوصف الذي يقبلها اللّه عليه منهم، فإن هم أقاموها على هذا الوجه كانت عملا مبرورا، يقبله اللّه منهم، ويجزيهم عليه أحسن الجزاء.
وقوله تعالى: {فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها} أي فما رعى القوم هذه القربة حق رعايتها، وما أقاموها على وجهها المرضى منها.. وذلك في الأعم الأغلب منهم، وإن كان بعضهم قد وفّاها حقها، ورعاها حق رعايتها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ}.
أي فآتينا الذين رعوا هذه الرهبانية حق رعايتها- آتيناهم أجرهم كاملا، وهم قليل.
أما أكثرهم فقد خرج عن هذا الطريق القويم، ولم يرع حق هذا العمل المبرور، الذي كانت غايتهم بإلزام أنفسهم إياه، ابتغاء فضل اللّه، وطلب المزيد من إحسانه.
وهذا يشير إلى أن الرهبانية أكثر من أن تحتملها النفوس البشرية، ولهذا فإنها لم تكن من شريعة اللّه، فلما شرعها الناس لأنفسهم، وعقدوا مع اللّه تعالى عهدا على مراسم خاصة بها- لم يطيقوا الوفاء بهذه المراسم، مع اتخاذهم الرهبنة زيّا.. فكان ذلك نقضا لعهد اللّه، وخيانة للأمانة التي ألزموا أنفسهم إياها، رياء وخداعا للناس.
والمعنى، أن اللّه سبحانه قفىّ أي أرسل، وبعث، بعد هذين النبيين الكريمين- نوح وإبراهيم- برسل كثيرين، ثم أرسل بعد هؤلاء الرسل عيسى ابن مريم، وآتاه الإنجيل، وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، إذ كانت دعوته عليه السلام، قائمة على الموادعة والمحبة والسلام.
فالرأفة والرحمة التي جعلها اللّه سبحانه في قلوب المستجيبين لدعوة السيد المسيح، إنما هي أثر من آثار هذه الدعوة التي أرسله اللّه سبحانه وتعالى بها، فمن لم تسكن قلبه الرأفة والرحمة، فليس من أتباع المسيح في شيء.. إنها دعوة أرادها اللّه سبحانه وتعالى ليكون من أتباعها جنود فداء وتضحية في مقام البذل والعطاء من ذات أنفسهم لهذا المجتمع الإنسانى الذي تغلى فيه مراجل الأنانية والأثرة، ويتقاتل فيه الناس بالمخالب والأنياب، كما تتقاتل الحيوانات المفترسة في الغابات.. إنها دعوة لا تحتملها إلا نفوس كبيرة تستطيع أن تجد هذه المعاني النبيلة مكانا فيها.
وإذن فليس كل من آمن بالمسيح أهلا للوفاء برسالته، وإلّا لكان أتباع المسيح الذين يعدون اليوم بمئات الملايين في الشرق والغرب- لكانوا رسل سلام، ودعاة مودة ورحمة، ولاعتدل بهم ميزان الإنسانية المضطرب، ولسكنت دواعى الشقاق والخصام، ولخمدت نيران الحروب المشبوبة في كل ركن من أركان الدنيا، والتي هي في حقيقتها من صنع هؤلاء الأتباع الذين ينسبون إلى المسيح، والذين لا تكف أيديهم أبدا عن العدوان على الناس، وعلى البغي والتسلط.. وحسبنا شاهدا على هذا هذا الاستعمار الغربي الذي تسلط على الناس، واستبد بالشعوب في كل صقع من أصقاع العالم.. فأتباع المسيح، أو من ينتسبون بغير حق إليه، هم الذين استعمروا الأمم، وأذلّوا الشعوب، وامتصّوا دماء الإنسانية، في الماضي وفى الحاضر، وإن في أمريكا لمثلا صارخا لأبشع صورة من صور الإنسانية، حين ينزع الإنسان عنه كل مشاعر المودة والإخاء، ويلبس جلد الأفعى، فينفث سمومه في كل من مرّ به، لا لسبب إلا إرضاء لغريزة التسلط والبغي والعدوان.. ويشهد العالم في هذه الأيام تلك الحرب الوحشية التي يشنها الأمريكان على شعب فيتنام الفقير الأعزل، الذي يلقى بإيمانه القذائف المدمرة التي تهلك الحرث والنسل.
ومن قبل هذا العدوان الآثم على شعب فيتنام، قام الأمريكان بأبشع جريمة عرفت في تاريخ البشرية، حين ولد على أيديهم أشأم مولود في الوجود، هو القنبلة الذرية، فألقوا بقنبلتين كل منهما كحجم بيض الحمام، على مدينتين من مدن اليابان، هما هورشيما ونجازاكى.
وفى ثوان معدودة تحولت المدينتان اللتان كانتا زاخرتين بالحياة والحركة، إلى كومتين من رماد.
وبهذه الفعلة الآثمة فتحت أمريكا المنتسبة إلى المسيح باب شر لا ينسدّ أبدا حتى إذا كان صباح يوم أو مساؤه، انفلتت هذه القنابل من مرابطها، وإذا وجه الأرض قد انقلب لظهرها، وإذا كل حىّ فيها قد تحول إلى فحم أو رماد.. وهذا كله مما تصدّر أمريكا- التي تنتسب كذبا وزورا إلى المسيح- من شرور ومهلكات.
ولأمريكا هذه دور نذل خسيس مع الأمة العربية الإسلامية.. إنها تبيع دينها، وشرفها لليهود، وعلى مائدة من موائد القمار، فتغريهم بالأمة العربية، وتمدهم بالسلاح والعتاد، وتعمل على ترسيخ أقدامهم في الأرض المقدسة، التي دنسوها بآثامهم، وخضبوا أرضها بدم الحواريين من أتباع المسيح، بل وبدم المسيح نفسه كما يعتقد الأمريكان، أتباع المسيح، بأن المسيح قتل بيد اليهود!.
إن أتباع السيد المسيح عليه السلام، لهم سمات معروفة تتمثل فيها المثل الإنسانية الكريمة في أرفع منازلها، وأكرم وجوهها.. فمن كان على تلك الصفة فهو المسيحي حقا، الذي يباركه المسيح حواريّا من حوارييه، وتلميذا من تلاميذه، أيا كان لونه، وجنسه ومذهبه.
فالمسيح عليه السلام دعوة خير، ورحمة، ومحبة، وسلام.. وأتباع المسيح دعاة خير، ورحمة، ومحبة، وسلام.
وللمسيح- عليه السلام- قولته المشهورة: من ثمارهم تعرفونهم، وتلك القولة الكريمة، هي الميزان الذي يوزن به أتباعه.. وإنه بقدر ما يحمل المسيحي من ثمار هذه الدعوة المباركة يكون قربه أو بعده من المسيح، ومن رسالة المسيح.
وقد جاء القرآن الكريم كاشفا عن حقيقة رسالة السيد المسيح، وعن آثارها فيمن يتقيمون، فيقول اللّه تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [82، 83: المائدة] فعن هذه الرحمة والرأفة التي أثمرتها دعوة المسيح في أتباع المسيح المؤمنين حقّا- كان هذا الدمع الذي يفيض من تلك القلوب الرقيقة التي تذوب حنانا، ورحمة، كلما استقبلت نسمة من أنسام الحق، وكلما طاف بها طائف من آياته.
فكيف إذن يكون للأمريكان وأمثالهم ممن ينتحلون نسبتهم إلى المسيح- كيف يكون لهم وجه يلقون المسيح به، وقد قبلوا من رفضهم المسيح، واحتضنوا من ألبسهم ثوب اللعنة إلى يوم الدين..؟
ثم كيف يكون للأمريكان وأمثالهم ممن ينتسبون إلى المسيح كذبا- كيف يكون لهم يد تصافح يد المسيح، وقد صافحوا بأيديهم تلك الأيدى الملطخة بدم حواربى المسيح وتلاميذه، بل وبدم المسيح نفسه، كما يعتقدون عن يقين أن اليهود قد صلبوه، وعلقوا دمه عليهم وعلى أبنائهم إلى يوم الدين؟
لقد كان بيلاطس الرومانى الوثني أبرّ بالمسيح وأعرف لقدره من هؤلاء الأتباع من الأمريكان وأمثالهم، الذين يطلقون البخور اليهود، في كل مكان، ويعطونهم من ذات أنفسهم الولاء والخضوع بغير حساب، وكأنهم بهذا إنما يباركون ما صنعوا بالمسيح، ويزكّون مواقفهم اللئيمة معه، ومع حوارييه وأتباعه، على حين لم يغفر الحاكم الرومانى ولا الحكام الرومانيون الذين جاءوا بعده- لهؤلاء الآثمين القتلة جنايتهم على المسيح وأتباعه، بل لقد ظلت في قلوب الرومان الذين قاموا على حكم اليهود، بغضة ونقمة، إلى أن ضربوا اليهود تلك الضربات المتتالية المهلكة التي لوت أعناقهم، وأضرعت للأرض خدودهم.
إن {بيلاطس} الحاكم الرومانى الوثني، لم يستبح دم المسيح، ولم يقبل من اليهود الذين حاكموا المسيح إليه، أن يأخذه بالتهم الكاذبة الملفقة التي قدموه للمحاكمة بها، وطلبوا صلبه من أجلها، بل إن الرجل رأى بين يديه إنسانا بريثا تنبحه الكلاب، وتتعاوى حوله الذئاب، لتأكل لحمه وتلغ في دمه، فأبى عليه ضميره أن يشارك في هذا الفعل الآثم، وأن يلصّخ يده بهذا الدم البريء.
وأنه حين أعيته الحيل مع هذه الذئاب العاوية التي لا ترضى بغير دم هذا الإنسان، أو تثيرها فتنة، تصل إلى مسامع قيصر، فلا يأمن الحاكم الرومانى أن يكون هو الضحية- حين وصل الحاكم الرومانى إلى هذا الموقف، دعا بإناء، مملوء ماء، وغسل فيه يديه على أعين اليهود، ثم ألقى إليهم بقولته الخالدة: إني بريء من دم هذا البار.. فشأنكم أنتم معه فتعاووا جميعا: بل دمه علينا وعلى أبنائنا.. إلى يوم الدين! هذا هو بيلاطس الوثني، وموقفه من قتلة المسيح، الذين لم يشف ما بهم منه، حتى وقع في يقينهم أنهم قتلوه، وصلبوه!! أما الأمريكان، وأما كثير غيرهم ممن ينتسبون إلى المسيح، فإنهم يضعون أيديهم في أيدى قاتلى المسيح وصالبيه، ويزودونهم بأسلحة الهلاك والدمار، ليقتلوا بها كل معنى من معانى الرحمة، والحب، والمودة، التي بشّر بها المسيح.. وليصلبوا المسيح ويقتلوه كل يوم عشرات المرات ومئاتها، فيمن يقتلون ويصلبون، من أبرياء أبرار، من أطفال وشيوخ ونساء.. في براءة المسيح وبره، على أرض مشت عليها أقدام المسيح، وأشرقت فيها أنوار حكمته، ورحمته.
فيا لثارات المسيح، من أتباع المسيح..!!
ونحن هنا لا ترجم بالغيب إذا قلنا إن الأمريكان وقد خلطوا أنفسهم باليهود، ودخلوا معهم في هذا الحلف الشيطاني الذي يقوده اليهود لهدم معالم الإنسانية، وإشاعة الخراب والفساد في كل أفق من آفاق العالم- لا ترجم بالغيب إذا قلنا إن الأمريكان- وهذا موقفهم اليوم- سيلقون نفس المصير الذي لقيه اليهود في هذه الحياة، وسيأخذون نصيبهم من تلك اللعنة التي أنزلها المسيح عليهم، وألبسهم بها ثوب المذلة والمهانة والخزي إلى يوم القيامة! فلينتظر الأمريكان قريبا هذا المصير المشئوم، الذي لن يعصمهم منه ما بين أيديهم من قوى الشر والبغي، فإن هذه القوى نفسها هي التي سترتد إليهم، وتأتى على كل ما جمعوا وما استكثروا من مال وعتاد، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [24: يونس].
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الكفل. النصيب، والجزاء المقدور لما يأتى الإنسان من قول أو عمل.
وكفالة الشيء، رعايته، والقوامة عليه، سواء أكان شخصا، أو قولا، أو عملا، ومنه قوله تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} [37: آل عمران].
والخطاب هنا للمؤمنين من أهل الكتاب، الذين ذكرهم اللّه سبحانه في الآية السابقة بقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}.
وهذا الخطاب، هو دعوة لهؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام.. أما الذين آمنوا بموسى، ولم يؤمنوا بعيسى فهم غير مؤمنين، وكذلك من آمنوا بعيسى ولم يؤمنوا بموسى، فهم غير مؤمنين أيضا، إذ كانت دعوة عيسى عليه السلام مكملة لدعوة موسى. كما يقول المسيح: ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمل.
والدعوة الموجهة للمؤمنين من أهل الكتاب هنا، هي دعوة إلى أن يتقوا اللّه، في أنفسهم، وفى دينهم، وألا يهلكوا أنفسهم، ويفسدوا إيمانهم.
وأنهم إذا ألزموا أنفسهم التقوى كان عليهم أن يؤمنوا برسول اللّه وهو محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.. فإن ما يدعوهم إليه، هو الإيمان الذي يؤمنون به، إن كانوا مؤمنين حقّا. ولهذا ناداهم اللّه سبحانه بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.
فمن كان مؤمنا حقا من أهل الكتاب، فإنه لا يجد في الإيمان برسول اللّه، محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلا دعوة مجددة للإيمان الذي تحمله دعوة موسى وعيسى، عليهما السلام.
وقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} هو جواب وجزاء للاستجابة لهذا الطلب الذي طلب إليهم في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} أي إنكم إن اتقيتم اللّه وآمنتم برسوله يؤتكم اللّه كفلين من رحمته، أي جزاء مضاعفا من رحمته.. جزاء على إيمانكم الصادق بموسى وعيسى- عليهما السلام- وجزاء على إيمانكم بمحمد عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} معطوف على قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي إن اتقيتم اللّه وآمنتم برسوله، آتاكم اللّه أجرا مضاعفا، وجعل لكم مع هذا الأجر المضاعف نورا تمشون به يوم القيامة.
وفى قوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} إشارة إلى أن هذا النور، هو خاص بالذين يؤمنون بمحمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأن هذا النور لا يتحقق لأهل الكتاب إلا إذا آمنوا بمحمد.
وهذا النور الذي يجعله اللّه سبحانه لمن يؤمنون برسول اللّه من مؤمنى أهل الكتاب، هو نور في الدنيا، يكشفون به معالم الطريق إلى الحق، كما يقول سبحانه: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [15، 16 المائدة].
ثم هو نور في الآخرة، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول سبحانه:
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ} [12: الحديد].
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} معطوف على جواب الطلب، وبهذا يتحقق لمن يؤمن برسول اللّه من مؤمنى أهل الكتاب ثلاثة أمور:
أولها: مضاعفة الجزاء لهم، وإيتاؤهم أجرهم مرتين، لأنهم آمنوا مرتين، مرة قبل مبعث محمد، ومرة بعد مبعثه.
وثانيها: أن يجعل اللّه لهم بهذا الإيمان نورا يمشون به في الدنيا والآخرة وثالثها: أن يغفر اللّه لهم ما وقع منهم من أخطاء، أو آثام، قبل إيمانهم بمحمد صلوات اللّه وسلامه عليه- شأنهم في هذا شأن الجاهليين الذين دخلوا في الإسلام.
قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الحروف التي يقال إنها زائد.. ما تأويلها؟
يكاد المفسرون يجمعون على أن {لا} في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ} زائدة، وأن المعنى إنما يستقيم بحذفها.. وقد سوّغ عندهم القول بهذه الزيادة، واحتمال وجودها في القرآن الكريم، ما وجدوه من بعض الشواهد لهذا في اللغة العربية.
وهذه الشواهد، إن صح أصلها، فإنها لا تقوم حجة على القرآن الكريم، ولا ينبغى أن يؤخذ كلام اللّه سبحانه وتعالى بمعيارها.
فالزيادة، لغير غرض بلاغي، هي حشو، يدعو إليه الاضطرار، الذي لا يكون إلا عن عجز متحكم، لا يستطيع المرء مجاوزته، والاستعلاء عليه.
وتعالى اللّه سبحانه، وتعالت كلماته عن هذا علوّا كبيرا.
ونحن مع {لا} هذه بين أمرين لا ثالث لهما:
فإما أن تكون من كلام اللّه سبحانه.. وإذن فلابد أن تكون من بنية هذا الكلام، لا يستقيم المعنى إلا بها، وأن عدم اعتبارها، عدوان على المعنى، وإفساد له.. وإما أن تكون دخيلة على كلام اللّه، لا يستقيم المعنى إلا بحذفها، وتجريد بنية الكلمة منها.
وهذا الفرض الثاني غير وارد أبدا في هذا المقام، مقام الحديث عن كتاب اللّه، وآياته، وكلماته.. فقد تولى اللّه سبحانه وتعالى حفظ كتابه الكريم، من أي تحريف، أو تبديل في كلمة من كلماته، أو حرف من حروفه. كما يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [9: الحجر].
وإذن فنحن على يقين لا شك معه، ولا ريب فيه، بأن {لا} هذه من بنية الكلمة، شأنها في هذا شأن بقية حروف الكلمة {لئلا} ذات المقاطع الثلاثة:
اللام (لام التعليل) و{أن} (المصدرية) و{لا} النافية.
هذا ما ينبغى أن يقوم عليه إيماننا مع تلك الكلمة، ومع جميع كلمات اللّه، سواء انكشف لنا وجه الحق في هذه الكلمة أو لم ينكشف، وسواء وقعت من مدركاننا موقع المحكم أو المتشابه من آيات اللّه. كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ} [7: آل عمران].
ولو وقفنا عند هذا الحد من الآية الكريمة، وقلنا إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم- لو وقفنا عند هذا، لكان أولى وأحمد من القول بزيادة حرف من حروفها. حتى نطوّعها بهذا القول لمفهومنا، وإدراكنا.
ومع هذا، فإن الآية الكريمة ليست من المتشابه، بل هي من المحكم الذي يمكن أن يكون لنا نظر فيه، وفهم له، وإن كنا لا ندّعى أننا من الراسخين في العلم.
ونقرأ الآية الكريمة {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
وإنه لكى يقوم لنا فهم صحيح للآية الكريمة، ينبغى أن نصلها بما قبلها من آيات اللّه، وأن يكون نظرنا إليها قائما على مراعاة هذا الجوار المرعىّ بين آيات اللّه وكلماته، وإلا كان هذا قطعا منّا لما أمر اللّه به أن يوصل.
والآية التي تسبق هذه الآية وتجاورها، هي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وهذه الآية- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- هي دعوة إلى المؤمنين من أهل الكتاب أن يؤمنوا برسول اللّه، وأنّ إيمانهم هذا هو الذي سيلحقهم بالمؤمنين، وينزلهم منازلهم، ويجعل لهم النور الذي جعله اللّه للمؤمنين يوم القيامة، وقد فتح اللّه سبحانه هذا المدخل الذي يدخل منه أهل الكتاب إلى هذا المنزل الكريم، لئلّا يعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل اللّه، ولئلا يقع في تصورهم أنهم محجوبون عن هذا الفضل، لا يستطيون بلوغه بحال أبدا، إذ كان- كما خيّل إليهم- أنه فضل خاص بالعرب وحدهم.. وكلّا فإنه فضل اللّه، يناله كل مستجيب للّه، مؤمن برسول اللّه.. وألا فليعلم أهل الكتاب أنهم قادرون على أن ينالوا هذا الفضل، إذا هم دخلوا فيما دخل فيه العرب.. فإن الفضل بيد اللّه وحده، لا بيد العرب، ولا بيد نبىّ العرب، بل هو بيد اللّه وحده يؤتيه اللّه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم الذي يسع فضله الناس جميعا، دون أن ينقص منه شيء!.
فمعنى القدرة في الآية الكريمة ليس معناه القدرة المتحكمة، المتمكنة، وإنما معناه الاستطاعة التي تمكن صاحبها من بلوغ ما بلغه غيره من الناس، في السبق إلى منازل الفضل والإحسان.
ومعنى القدرة على فضل اللّه، إمكان التعرّض له، والنيل منه، على حسب ما يعمل الإنسان، في سبيل مرضاة ربه، وابتغاء رضوانه.
وفى اقتصار فضل اللّه على شيء منه في قوله تعالى {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} في الاقتصار على هذا ليس من باب التحدي بالقدرة على هذا الشيء من الفضل، فضلا عن الفضل كله، وإنما هو إشارة إلى أن هذا الشيء من فضل اللّه، هو من الكثرة بحيث يسع الوجود كله، وأنه إذ أخذ العرب من هذا الشيء ما أخذوا، فإن ما أخذوه ليس إلا قطرة من بحر يمدّه من بعده سبعة أبحر.
والآية الكريمة إنما تخاطب بهذا أهل الكتاب، الذين غلب على تفكيرهم- وخاصة اليهود منهم- أنهم شعب اللّه المختار، وأن اللّه سبحانه إذا اختار شعبا- كما يزعمون- فإن فضله كلّه يتجه إلى هذا الشعب، فلا تكون منه بعد هذا بقية ينالها أحد! وهذا من سوء ظنهم باللّه، وتصورهم القاصر المحدود، لجلاله وعظمته، وكماله.. ولهذا كان الحديث إليهم عن شيء من فضل اللّه، وأن هذا الشيء من فضل اللّه، يسع الوجود كله.. وإذن فلا يحجبهم عن الإيمان برسول اللّه هذا الشعور الخاطئ الذين يعيشون به، والذي يحيّل إليهم منه أن العرب إذ سبقوا إلى فضل اللّه، فلن يكون لأحد من بعدهم نصيب في هذا الفضل.
ورتّل بعد هذا الآيتين الكريمتين معا:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
رتلهما، وأقم فهمك للآيتين على أنهما في مواجهة أهل الكتاب، وفى دعوتهم إلى الإيمان برسول اللّه، وبالدّين الذي جاء به، وعلى أن ذكر أهل الكتاب في الآية الثانية هو إشارة إلى أن المدعوّين إلى الإيمان برسول اللّه في الآية الأولى، هم أهل الكتاب هؤلاء، سواء في هذا من استجاب منهم للدعوة، أو من أبى أن يستجيب لها.
وإنك إذ تفعل هذا ستجد أن المعنى يقضى بأن تكون {لا} هنا مطلوبة لتكون أداة نفى، لا أن تكون حرفا زائدا معطّلا عن أداء وظيفته في بنية الكلمة.
هذا، واللّه أعلم.